الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

فى أحد الايام *** بقلم الأديب / حسن السلمونى

وفي أحد الأيام، غطت المدينة سحابة كبيرة ورمادها نزل على سقف الأزقة رذاذا وانتشر بين العوام نبأ اعتقال بسطاء كانوا للعدو وأعداء، ولقد أعدوا لهم في المعتقلات عذابا أليما، إن فظاعة الإنسان تكشفها الجرائم التي يرتكبها ضد الإنسان، وساد في المدينة بين الناس رعب وهلع، وكل نفس صارت بما تعلم ضامرة، وتناثر السكان من عقد الصداقة أشتاتا، ولم تعد تسمع بينهم في الطرقات تحية ولا سلاما، والكل من شقائه عائد بالخطو يرمي مسرعا، وعن قفة قوته يتجنب التأبط، والسلطة في استنفار نهيقها للقلوب يفزع، حتى صار الناس في الأزقة يمشون فرادى .
فبكى الإمام العجوز سرا في المسجد، والحفيد لحبات الدمع يلقط، وبأنامله ينفض ما حوت مقل الجد من عبرات أبت منها انزلاقا، وبخواطر مضطربة بما أصاب دوحته من فاجعة، ضم إليه فلذة كبده والأطراف ترتجف، واللسان أثقله النواح والشكوى، وما من آلام بالصدر حوى، كادت أن تكسر ضلوعه، وعلى حطامها أسند رأس طفله، وأرخى غطاء الحزن على مهده، وهمس في أذنه وهو يجهش بالبكاء وبكل صدق، ينعي له في السر اعتقال العم في سجون الباشا، تم النزيل مفقود، وأبواب الفرج به موصودة، والموت مروض على نزع الأرواح ولا يذر أحد في البكاء، فإن الله يغمض جفنه مستنكرا وقلبه يجهش بالبكاء صدقا عندما يرى عباده من الفقراء داخل سجن الإنسان تحرق جلودهم بنار موقدة في فرن المخزن، ولا أحد يستطيع إلقاء صرخة أو تبليغ صورة يدير مشاهدها البشعة الإنسان في حق الإنسان.
ركد الإمام في موضعه يقشر عتمة كل الأبواب والنوافذ مغلقة، يتخبط في ظلمة غير جلية، فأوقد مصباحا بأحشائه، نوره طهارة يضيء بها سجادة عليها يقيم مواقيت عليه مكتوبة، عسى أن تبطل العبادة بطش الطغاة في حق الإنسان وكرامته، فتأججت بداخله ثورة وسلاحه الصدئ، استيقظ مما كان فيه من غفلة، وانتعل السجادة ومسك الحفيد من قفاه مثقلا كتفه بالسبحة، وأدخله معه في صلاة دخيرتها دعاء، به النفس تقاوم ما أصابها من ضعف، وتلقي مقاليد النصر للرب عسى أن يتدخل ويعيد الحق لأصحابه، وأن يرزق السجين صبرا جميلا به يهزم قساوة الجلاد، فنط الغلام من فوق سور العبادة، تاركا الجد في وحل السراب، يخترق بقارب منعدم المجداف، والأمكنة التي يريد إليها الوصل معابرها بالحراس مثقلة، والليل قد بسط لحافه غطاء يستر به جثث مدن تناسلت من الطين ولباس حاضرها من تقاليد النخيل، والأمة أتقلوا جيدها بالتمائم، كي تشفي العلل التي بها أعدموا حاضرها، والأحزاب مطيتها جحش، وإذا مروا على أزقة بها فقراء زرعوا بينهم رغيفا فتنة ومنهم قطفوا وردة كانوا في الكرى قد زرعوها وبالدمع سقوا بذرتها، فإن رجل السياسة فض وماكر ، له قلب غليظ أشد من قساوة الحجر، لا تتفجر منه ذرة رحمة على العباد الذين استضعفهم دستور ليس لهم منه إلا استفتاء مزيف، ركض الغلام كالمهر إلى أمكنة أنثاه ، يحتمي بعرض سلطتها، كي يشتري منها سجونا ومعتقلين وجماجم قد توارت في مقابر مجهولة، والخطو يطوي مسافات لم يدلي بها عقرب الزمان لأحفاده، وفي الركض خال أن التي يقصد مكانها عنه قصيا، وكأنه يجري في بيداء يسابق الشمس الى غروبها، وارتمى من شرفة الحزن في حضنها، والجراح به لا تندمل إلا إذا كانت لنفسه ضمادا، التوى على جيدها والدمع من مقله منهمر، وعلى حبل جيدها صب البكاء بركته، وعلى ضفافها نما من الزهور ما يرعى من رحيق أكاليله النحل، بكى كالجد فكان البكاء صادقا، ومكان البكاء مختلف والتفاوت في الزمان قائم، فلقد جففت دمعه، ونبع عبراته لم ينضب مجراه، حتى ارتوى منديل من الخز بين أناملها، منديل لم يسبق له أن ذاق ملح الدمع، فتمسست في دواخلها قلب غلامها و الآلم بالنفس حارقة، فأرخى الفؤاد ظلال عواصف، وهوت بصدره تشفي علته، فبدت بالقرب منه كشمس على مسطبة الغروب من مقلها نبع لون الغسق، ومزجت روحه بروحها وحواهما نقصان كانت تشان به، في غرفة الحلم يحترقان كعود الرند، والليل غطاء يضمرهما عن عين كل سامر ، ونوافذ على جدارها قد تحطمت بنسيم شوق هباته نفح بها طائر قد عار من قزح ألوان ريشه، وعلى فروع ليل تسلت بأغاريد منه وقد راقها اللحن .
فتسابقت الشمس في غروبها، وحين انقضاض المجلس من حوله، دخلت عليه والوجه خماره كآبة، فأخبرته بما في صدرها من نبأ، فشب في خلوتهما حريق لهب نهاره من كلام عصي، والسقف ليست به مدخنة، فنام في عشه يطعمه أحلامه من نهد ناضب منه ينتظر قطرة لبان يحتسي طعمها نبيذا، فأفصح لها والتجهم باد على سماه، إن سعت صدري قد ضاقت بما منحتك من لعب لحماقاتك، فإني معرض عما ألقيت على كاهلي من أمر لا يليق بمقامي، فوجهي كالبدر ناصع في سماء الباشا، ولا يمكن لي أن أقذره ولو بذرة من سخام، إن ما تأمري به ما هو إلا هزوا يتخذه الذين يكنون لي في قلوبهم سوءا، لما أساق أسيرا كالقن، ويصير الوجه كقدر من فخار عليها السخام تلبد، وكأني بأمرك هذا أشق بابا على صخرة، والصخرة صلب لا ينقر منها الفأس شظية إلا صدى طنينا من قوة ضرب يزعج الذي في صلاته يستلقي قيلولة، أتريدين بي صفعة تبخيس أتجاوز حدودي بطلب العفو عمن ارتد وبكفر أراد إرهاب المستعمر.
فطوت في فستان يحمل ذكرى خرق بكارتها تحاورهما، ودخلت غرفة الصمت بكسوة الحداد، ومن رحمها يتدلى ذكر ومنها قد سرقت طينته، وبروعة ما نحت على جسدها من جمال به كفر، فلذة جمال هذا الكون بدعتها الإناث بقطرات لبان من محبرة الثدي، فلولاهن ما ولد الإله في عقيدة الإنسان .
لبست الغرفة عتمة الحزن، والأسى يثقل خواطر لا مجيب لشكواها إلا عباب يم هائج، بزبده يلهو الغلام ومن بذور ملحه يغرس في مطرحها ما سقط من الدمع من مقله، وبقبلات حزن مسحت على وجنتيه ما علق بهما من وسخ الكآبة، وارتدت زي أهل الدار المرسوم لتقاليد المواسم الكبار، وبحلي من الفضة والذهب رسمت لوحة لمقامها تبجل وجمالها تزيد زينة، ومن خلف خمار شفاف عيون جاحظة تلقي بنظرات تخاطب البحر حين يستضيف لحظة الغروب، تم ركبت عربة تجرها الخيول، وغلامها تحت جناحها يرتعد قلبه من خوف مجهول، ولما نقرت الخيول بقوائمها بوابة القصر، فتح لها الحراس المداخل، وبلغ جلواز سيده أن سيدة من حريم خدام المقام نزلت في حضرته ضيفا، فأدخلت إلى قاعة وبها تم الترحيب، قاعة مفروشة بالأرائك، وموائد عليها ألذ وأشتهى الأطعمة مختلف ألوانها وأشكالها، ومن كل طير بر والأنعام زينت صحون أكلها على الفقراء ممنوع، وخادمات وهن من زنوج الجنوب يقمن بطهارة أيدي الضيوف، وإذا سمع لاغ في نومه فإن القبر له مسكن، فالحرية في أحذية البؤساء راقدة، ولقد أعددت لها من الشمس جرسا أحباله من أسمالي تنتظر رسولا لها يقوم بالجذب.
وبعد وقت من الإنتظار في الإنتظار، أذن لها الجلواز بالدخول، فباركت الدعوة و ولجت فارتجفت دواخل الغلام من نهيق الباشا، السفيه المخادع للناس في صفاء الأعياد، وعندما يخرج إليهم بلباسه التقليدي الناصع البياض وكأنه ليوم جمعة مصل، وإن له في الحاضر نظير من نائب عليه حضور مكتوب لميعاده طاهر نقي وباطنه خبيث ولبه جاهل، فنادى، والنداء كان بنقر جرس من نحاس، والأمر له مطاع، واللعاب كالحمم من ثغره تتناثر شظايا الغضب، والعينان تتأجج فيهما نار وكأنهما فرن به جمر موقد، والوجه فناؤه متجهم منه الفزع يصفع الماثل أمامه، وبأنكر الأصوات يرعد ويديه من خلف ظهره يغلهما، والجوارح على طريدة من السجناء تتربص، ثم أشار بسبابته الى جرة من نحاس، فأحضرها خادم بخفة ورشاقة، وأخذ يصب له في فمه ما تحوي من نبيذ، والنبيذ ينساب على لحيته، ولما ارتوى منه رفع كفه، ونهق حتى سمع نهيقه من به الصمم، وعلى حافة منضدة أسند المرفقين يتلحس باللسان شاربه، فلا يهدأ له بال و لا نفسه تستقر آمنة إلا إذا تلذذ بقتل ما اختار من السجناء، وقال لصاحبه هيئوا أرضا بها أزرع قبورا، نباتها من أوباش في حبل النضال تعلقوا، ثم صاح كالمعتاد وأمر أن يأتوه بجناح من السجن، وكل سجين مكبل بسلاسل وزنها أثقل منه كيلا ، والعيون تفقع بمشهب حام، فرج قلب الغلام وخال أنه ظل السبيل إلى حياة الإنسان، وجنح عن طريق الخطأ إلى كون غير الذي كان يقصد، فأصابته غشاوة كاد من جرائها يفقد وعيه، ورأى في حاشيته أن لهم قلب أشد قساوة من الصلب، يخنقون جيل الأمة بحبال من الفقر ، وقد تفرعت جذورهم والتوت على رقبة التراب، إنهم كالقردة ينطون على أغصان تتدلى من جدع المخزن، فسمع الغلام: إن المستعمر لن يرحل من بلد إلا و وضع على عرشه ربيبا له .
navright

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق